دنيا غير الدنيا!
في الوقت الذي كان المشروع الإسلامي يشهد خناقة على لم الأجرة بين السائق الإخواني والتبّاع السلفي، كان ثمة أناس في دنيا الله الواسعة ينشغلون بأشياء أكثر أهمية تمثل جوهر المشروع الإسلامي الحقيقي الذي تعبر عنه الأسئلة القرآنية التي لا تجد أبدا صداها لدينا «أفلا تتفكرون؟ ـ أفلا تعقلون؟ ـ أفلا تتدبرون ـ أفلا تبصرون؟».
وفي نفس الوقت الذي اختار مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر المستنير أن يغض الطرف عن كل وقائع التعذيب التي اهتزت لهولها البلاد ويكتفي بتحقيق إنتصار تاريخي بإحالة الدكتور يوسف زيدان إلى نيابة أمن الدولة العليا بسبب كتابه «اللاهوت العربي» الذي صدر منذ ثلاث سنوات بدعوى أنه سيسبب فتنة دينية عظيمة، كانت الصحافة الغربية مشغولة بتناقل أخبار عن تواصل تحقيق إنجازات مذهلة في علم الهندسة الوراثية في عدد من المراكز البحثية قد تمكن العلم قريبا من بناء بشر مقاومين للفيروسات، بل وربما مكنتهم من إعادة سلالات بشرية بائدة إلى الحياة مثل سلالة إنسان نياندرتال الذي تقول الأبحاث أنه انقرض قبل حوالي 24 ألف سنة مضت بعد أن عاش لآلاف السنين في أوروبا وآسيا الغربية، وكان معدل حجم مخه أكبر من معدل حجم المخ للإنسان الحالي بنسبة عشرة في المائة تقريبا، ومع ذلك فقد انقرض، مع أنه لم ير ربع الغُلب الذي نعيشه، والذي ربما كان سبب تآكل مخنا.
في مدونته الرائعة «قراءات» يترجم الشاعر أحمد شافعي حوارا مهما نشرته مجلة دير شبيجل الألمانية مع جورج تشيرش خبير علم الأحياء التركيبي في جامعة هارفارد والذي ساهم في إطلاق مشروع الجينوم البشري خلال ثمانينات القرن الماضي، وذلك بعد إصداره كتابا بعنوان (التكوين الثاني: كيف سيعيد علم الأحياء التركيبي إختراعنا نحن والطبيعة؟)، يطرح فيه إمكانية صنع بشر قادرين على مقاومة الجراثيم. تسأله المجلة «أنت تنبأت بأنه سوف يتسنى في القريب استنساخ إنسان نياندرتال، ماذا تعني بالقريب، هل ستشهد ذلك في حياتك؟»، فيجيب «هذا يعتمد على جحيم من الأمور لا أول لها ولا آخر، ولكنني أعتقد أن هذا سوف يحدث. والذي يجعلني أعتقد بإمكانية ذلك هو أن هناك حفنة من التقنيات التي تتطور بسرعة لم تكن قائمة من قبل. قراءة الحمض النووي على وجه الخصوص أصبحت الآن أسرع بمليون مرة مما كانت عليه قبل ثماني سنوات. وهناك تقنية أخرى سوف تلزم لإبطال انقراض نياندرتال وهي الاستنساخ البشري. نحن قادرون على استنساخ جميع أنواع الثدييات، فمحتمل جدا أن نستطيع استنساخ إنسان. إذ ما الذي يجعلنا غير قادرين على هذا؟». تسأله المجلة «لكن هذا ممنوع؟»، فيرد بثقة شديدة «قد يكون الأمر كذلك في ألمانيا، لكنه ليس ممنوعا في كل العالم، وعلى فكرة، القوانين يمكن أن تتغير».
تسأله المجلة عن فائدة ذلك الإستنساخ لعالمنا، فيقول «سلالة نياندرتال قد تفكر بطريقة مختلفة عن التي نفكر بها الآن. نحن نعرف أن جماجمها أكبر. ولعلها تكون أذكى منا أيضا. وحينما يحين الوقت الذي يتحتم فيه التعامل مع وباء أو خروج جماعي من الكوكب أو ما شاكل ذلك، فمن المحتمل أن تكون لطريقتها في التفكير فائدة». تسأله المجلة «ألن يكون أمرا إشكاليا من وجهة النظر الأخلاقية أن يتم خلق نياندرتال من أجل الفضول العلمي وحده؟»، فيرد قائلا» قد يكون الفضول جزءا من الأمر، ولكنه ليس القوة الدافعة الرئيسية. الهدف الرئيسي هو زيادة التنوع. الشيء الخطر على المجتمع هو نقص التنوع. هذا يصدق على الثقافة مثلما يصدق على التطور، وعلى السلالات مثلما على المجتمعات. لو أن الثقافة تحولت إلى ثقافة أحادية، لأصبح خطر الهلاك محدقا. وعليه فإن إعادة خلق نياندرتال سوف تكون في المقام الأكبر مسألة حماية مجتمعية». ثم ينطلق البروفيسور الأمريكي في حديث طويل وشيق عن المجالات المتعددة التي يمكن أن يتم فيها إستخدام الهندسة الجينية في الصناعة والزراعة وعلاج الأمراض المستعصية وأخيرا في مساعدة الإنسان على أن يعيش حتى يبلغ المائة والعشرين عاما بتحسين جيناته الوقائية، كاشفا عن القيام في هذا الصدد بجمع الحمض النووي من عشرين شخصا حتى الآن من بين ستين شخصا تجاوزت أعمارهم 110 عاما يعيشون الآن في عالمنا الذي يقصف العمر.
تسأله المجلة: ألا تخشى أن يتهمك الناس بأنك تلعب دور الإله، فيرد « أنا بالتأكيد أحترم عقائد الآخرين. ولكن الدين بصفة عامة لا يريد الناس أن يموتوا من الجوع. واليوم لدينا سبعة بلايين إنسان يعيشون على هذا الكوكب. ولو أن جزءا من حل مشكلة التغذية لكل هذا العدد هو أن تجعل محاصيلهم مقاومة للفيروسات فعلينا إذن أن نتساءل: هل في الإنجيل ما يمنع السعي إلى خلق محاصيل مقاومة للفيروسات؟»، يرد المحرر»لكن الإنسان المقاوم للفيروسات شيئ مختلف تماما»، فيجيب «لماذا؟ نحن في التكنولوجيا لا نقفز. إنما هو زحف بطيء. ونحن لن نصنع إنسانا مقاوما للفيروسات قبل أن نصنع بقرة مقاومة للفيروسات. ولا أفهم لماذا يمكن أن يتأذى أحد من هذه التكنولوجيا الجديدة».
تسأله المجلة «مستر تشيرش، هل تؤمن بالرب؟،»فيجيب «سأكون أعمى لو لم أر ذلك الإيمان بأن مخططا كليا هو الذي نتج عنه وجودنا حيث نحن اليوم. الإيمان قوة هائلة في تاريخ الإنسانية. وعليه فإنني أحترم أنواع الإيمان المختلفة. مثلما أعتقد بأن التنوع أمر شديد الأهمية من الناحية الجينية، ومن الناحية الاجتماعية أيضا». وهي إجابة أتمنى أن تكون كافية لكي لا يفكر مجمع البحوث الإسلامية في تقديم بلاغ ضد البروفيسور إلى نيابة أمن الدولة العليا لأنه والعياذ بالله يسعى إلى زيادة التنوع.
ماذا أقول بعد كل هذا، غير أن الدنيا في وادٍ، وبعضنا يريد لنا أن نعيش، ليس حتى في وادٍ آخر، بل أن نعيش في سرداب، وياليته كان سردابا أفقيا يمكن أن يوصلنا إلى مكان ما، بل هو للأسف سرداب رأسي نواصل حفر قاعه بإستمتاع شديد، ولا خلاص لنا إلا بهجر هذا السرداب إلى الأبد لكي نعيش في وادي العلم الذي يعيش فيه الأوادم من خلق الله.
أفلا تعقلون.
0 التعليقات:
إرسال تعليق