إنها خبرات حياتية
لست فيلسوف الغبرة ولا حكيم زمانى ولا حكيم عيون أفهم فى العين وأفهم فى رموش العين، ولكنى أملك بعض خبرات حياتية، بفعل تضاريس الزمن وتأثير زلازل النفس وانفجارات براكينها، ومن سمات الخبرات أنها تتراكم عاماً بعد عام كزجاجة عطر فواحة، والخبرات الحياتية ثروة «غير هدمية»- بلغة الاقتصاد- ولا تتفتت أو تضيع أو تضمحل، إنما تعطى لصاحبها- إن أحسن استثمارها- مذاقاً خاصاً، والخبرات وقود لمركبات الحياة، إن أذن التعبير. فى نيجيريا، البلد الأفريقى «مجلس المائة عاقل» وهم أصحاب خبرات يستشرفون المستقبل والرؤى المستقبلية، وكان نهرو حكيم الهند يقول إن «شبابا لا يتكئ على عصا الخبرة يمارس مغامرات فى المطلق».
وديجول جمهورية فرنسا الخامسة يرى أن «هناك نسبة خطأ واردة فى أى نشاط إنسانى والخبرات تقلل من اتساع رقعة الخطأ»، إن الخبرة لرجل السياسة هى بصيرته، والرجل الخبرة «داس» أرض المشكلة، أى خبرها وعرف أبعادها ومفاتيحها، وفى طلب الوظائف يطلبون «خبرات» لأن الخبرة تسرى فى أوعية المكان وشرايينه، وكنا نطلق على موسى صبرى «أسطى الصحافة المصرية» بسبب خبراته المتراكمة. الخبرة هى بصمة الزمن على الإنسان، وهى توقع المشكلة وحلها فوق صفحة العقل.
إن خبرات البسطاء فى الحياة ليست نابعة من ثقافة أو قراءات أو أسفار، لكنها من المعارك الدائمة فى الحياة اليومية، نحن نترك أولادنا يمسكون بالنار ليشعروا بالاكتواء فيقلعوا ولكن حين يلعبون بالنار فى مستقبل أمة، فلن تكفى سيارات إطفاء العالم لإطفاء الحريق!
فى شبابنا الفائر نجرب كل شىء ونتعثر ثم نكرر أخطاءنا، وفى منتصف العمر «نتروى» قليلاً ولا نفقد حماسنا، وحين ننضج نتحصن بالخبرات الحياتية، ندرك- مثلاً- أن الحياة منحة من الخالق فلا نبددها بطيش وندرك أننا نعيش بحزمة أعصاب فلا نبعثرها على التوافه، وندرك- بالخبرة- أن التهميش ضرورة حياتية، ندرك أن سعادتنا تنبع من داخلنا قبل أن تستعبدنا عوامل خارجية، ندرك أن خطأنا ومشاوير العمر ونجاحنا وفشلنا هى سيناريوهات إلهية لا يمكن تعديلها بإرادة بشرية، ندرك أن المرأة شريك العمر قد تكون قطة أليفة لكنها متسلطة تهدم ما بنيناه، ندرك أن أولادنا قد يكونون مصدر ألم ووجع، وبالخبرة نحدد مربع الوجع، ندرك أن المال شريان الحياة، شريطة ألا نمر بمرحلة العبودية فى البحث عنه وأن القليل قد يباركه رب السماوات ويجعله كثيراً، ندرك أن المناصب زائلة مهما كان الوهج،
فالسلطة لها سقف وعمر، ندرك أن الأمراض التى تشارك مسيرتنا هى قدر كل إنسان والتسليم بها راحة، ونحن- بالخبرة- أطباء أنفسنا ولا نعلم، ندرك أن الصداقات إكسير الحياة وعطرها ولكن صداقات زماننا مدفوعة الأجر يا ولدى، ندرك أن مشاكلنا تتبخر بالبوح حتى مع أنفسنا، وتتضخم بالكتمان وتؤثر سلباً على أجسامنا، ندرك أن أطباء النفس أكذوبة كبيرة فى وجود صداقة كبيرة، ندرك- بخبرات العمر- أن لقارة النفس البشرية تموجات وتعريات وقد تأتيك شظية حارقة من أقرب الناس إليك. نعم إن أموراً كيميائية تضاف إليها جينات شخصية ومشاعر شر مخبوءة فيثور بركان النفس «الأمارة بالسوء».
إن خبراء «التنمية البشرية» يرون أن المشكلة- أى مشكلة- مفتاح حلها فى طياتها، ولكننا قد لا نفطن إلى ذلك ونثير تهويمات باحثة عن مفتاح المشكلة، علمتنا الأيام، وما أبلغ دروسها أن «الاستغناء قوة»، فالحاجة إلى الغير هى ذل يكسر الأعناق، علّمنا الزمن، وما أنصح دروسه، قيمة الادخار فى المال والصحة، فالسفه فى الإنفاق عائده مهين، والسفه فى الصحة يقود إلى المصحات وعيادات الأطباء.
أحياناً ندرك بعد فوات العمر حقائق ما كنا لها منتبهين وأحياناً يسرقنا العمر ونكتشف أننا لم نعش حياتنا. إن نوعية الحياة هى نصف روعة الحياة. كان يوسف إدريس يقول «حياة بلا قسط من العذاب والتعاسة.. وهم كبير»، وكان توفيق الحكيم يردد «كل صباح أعيشه واقفاً على قدمى هو عيد ميلاد جديد لى»، وكان نزار قبانى يقول فى خريف العمر «حين خذلنى جسدى، عرفت أن النهاية اقتربت». بخبرات العمر، ندرك أن الألم ضريبة الحياة على البشر، هناك من يدفعها من صحته وآخر من هنائه الشخصى، وثالث من حياته العائلية.
ندرك أن الألم معادل طبيعى فى الحياة، وأقسى من ألم الجسد ألم «النفس»، فالآلام الجسدية يتعامل معها الطب الذى يقفز قفزات هائلة كل يوم، ولكن الآلام النفسية «تشتبك» بلحم الحياة وأناملها وتفاصيلها وهى «منغصة» لصاحبها ويسعى جيداً لإسدال ستائر النسيان عليها، لكنها كلما كان الإمعان فى النسيان، هبت حاضرة! إن خبرات العمر الحياتية تقلل من تقطيبة الجبين الدائمة وربما تقلص الأشواك الغائرة فى الروح وقد تساعد على ميلاد أمل للتخلص من العذابات الصغيرة غير الظاهرة لأحد، وإن كانت تنهش بأظافرها من الداخل وتجعل الهناء ناقصاً ومبتوراً.
الشباب دائماً حيارى يسألون بقلق بالغ ولا إجابات شافية، يعيشون التجريب وكل يتحمل مسؤولية تجاربه، ولسنا ضد التجارب بشرط أن تكون محصنة بالخبرة، وأضحك من قلبى لمن يعلن أن الثوار من شباب يناير يرفضون أن «العواجيز» يديرون أمر البلاد. إن شباب يناير لم ينجح فى التجرد من الذاتية، فولدت ائتلافات تدمن الخلافات فى الرأى فلا صار لهم كيان مستقل ولا حزب يعبر عنهم، فضاعوا فى الطريق بلا بوصلة أو نجمة فى السماء يهتدون بها، وغافلهم «غيرهم» فى لحظة فارقة. نعم الخبرة هى الحل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق