هل سرقتنا السكِّينة؟
«والله السكِّينة سارقانا»! مثل عامى من أحشاء مصر، نعبر به عن أنفسنا حين تأخذنا الجلالة ونكاد نقترب من النجوم، وتضعف رؤيتنا ولا نرى ولا نسمع سوى أنفسنا، متلذذين بصدى أصواتنا، ونغتال كل شىء من حولنا! تسقط المعايير فى بالوعة، ونلقى بالأحجار على القيم، ونهيل التراب على الأمانة فى القصد، لست أدرى مدى أفق العقول التى تستقبل كلماتى، ولكنى مصمم على طرح ما يختلج فى صدرى، ولا أدعى الكمال، لكننى أقاوم التحجر فى الرأى والعناد المميت لوجهة نظرى، فأسمح لنسمات آراء أخرى، ربما أنضج، أن تدخل رئة الحوار، هذه هى المهنية وهى ليست الفهلوة ولا اللعب على أوتار الضعف، إنما هى الامتلاك الكامل للأدوات، إنى أرثى لزمن تضاءلت فيه مساحة المهنية، وتفوقت عليها السوقية، الأصوات العالية تصم الآذان، وتجعلنا مائة نتحدث فى وقت واحد! فلم يسمع أحدنا الآخر! وصرنا مجرد «ظاهرة صوتية»، كما اتهم الغرب العرب يوماً.
المهنية هى تجمع خبرات ومهارات داخل عقل باتساع الأفق، عقل لا يضيق بأفكار الآخر، ويصغى له، المهنية هى ثقة بالنفس تولد احتراماً للقدرات الذاتية والموهبة الإلهية، فللأقلام كاريزما، وللوجوه كاريزما، و«المحرومون من هذه النعمة» يحاولون إقناعنا، دون جدوى، فيلجأون إلى ضرب الكلوبات متخيلين أنها الثورة، وهذا غير حقيقى، فالثورات تغير قشرة الأرض وتسقط الأقنعة والأصنام وتقلم الأنانية، وترفع فوق الهامات أعلام العدالة والإنصاف، فإذا غابت هذه الرايات فى ثورة، فكأننا، يا ولدى، استبدلنا ديكتاتورية بأخرى، ومن نافق الأنظمة التى جلست على العرش، يقع فى المحظور وينافق الثوار الجدد.
شىء واحد هو صمام الأمان من النفاق هو «المهنية»، هناك كما يقول ديجول: «نسبة خطأ ما وارد فى أى مشروع»، وقد حدثت أخطاء فى الإعلام المصرى، الذى تربى فى حضن زمن شمولى عريق مر بثلاثة عهود، فمن الطبيعى أن يكون خروجه من جلده بطيئاً، وعام كامل لا يكفى لمحو جينات 60 عاماً من «إعلام حكومى»، الجميع بلا استثناء عاشوا هذه الأزمنة، والجميع كانوا «أحجار فوق رقعة الشطرنج»، على حد عنوان كتاب مترجم، وليس إنصافاً هذه الهجمة الشرسة على الشاشة المصرية، رغم أخطاء واردة، لأنها شاشة مصر، وتدفع بالملاليم وليس بالملايين، لكنها تعبير عن مصر، بلا أموال لها رائحة.
لقد عشت عصر «القائمة» الممنوعة من الظهور على الشاشات، الآن وعبر شهور الثورة المنصرمة ليس هناك قوائم ممنوعة، وعشت عصر «البرامج الملغاة» تماما بعد تسجيلها فى الهزيع الأخير من الليل، وكانت الذرائع جاهزة، الآن لا برامج تلغى، ولا أسماء ممنوعة، تبقى قدرات من يتصدون للحوار وهى قدرات متفاوتة، أغلبها خرج من الركن والظل وهى حاملة لميكروب الشمولية، ولكنها قابلة للعلاج بعنصر الموهبة فقط، إن التليفزيون المصرى تخلى عن الصحفيين، أقدر من يبحث ويتصل ويعد البرامج فى قرار متسرع، وقد ظهر جلياً فقر البرامج من الجهد المبذول، بينما ذهب هؤلاء إلى الإعلام الخاص، وتقاضوا أضعاف ما يدفع لهم التليفزيون المصرى، فهل كان القرار حكيماً حين جردنا المذيعين من عنصر المعلومات؟ كانت «السكِّينة سارقانا»! بعض الثوار لا يظهر فى الشاشة المصرية بدعوى أنها تعادى الثورة، ولا تشتم العسكر، فهل هذا إنصاف؟!
وهل ظهورهم على الشاشات «الأخرى» هو الحلال وما عداه حرام؟! أفهم أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، والثورة ماضية والجبناء يمتنعون، ولكن لفوضى الأفكار سقف، من المهم أن نحمى بعقولنا مؤسسات الوطن، قبل سرقتها، إذا كانت هناك أخطاء فى هذه المؤسسات نصلح موتوراتها، فتنطلق فقط بالكفاءات، لا النشطاء، لا تجعلوا مؤسسات الوطن تغرق، أنا لا أصادر عواطف الشباب وحرارتها، ولكنها ليست قنديل ضوء، بل لها سمات الريح التى تغرق السفن، أعترف بأنى «مش مطمن»، فلهذه الطمأنينة إشارات ليس من بينها أن يحكم الرصاص المدينة من هو متفائل فليرمنى بقطرة، وسوف أضرب عن رؤية برامج «السخونة البذيئة» وأحتفظ بعقلى، البقية الباقية من عقلى! وأتساءل، كناس مصر: هل سرقتنا السكِّينة؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق