مع أنها رواية تحكي وجع العراق، إلا أن وجع مصر لن يفارقك لحظة وأنت تقرأها، ليُجَدِّدَ حزنكُ على العراق خوفكَ على مصر، وأملك في ألا نواصل السير بها بفعل عنادنا ومكابرتنا وإدماننا للكراهية نحو مصير أسود حزين شهده العراقيون عندما فقدوا قدرتهم على التعايش، وظنوا أن الإستبداد وحده يمكن أن يحميهم من التطرف إلى الأبد.
في رواية الروائي العراقي سنان أنطون البارعة والحزينة (يا مريم) الصادرة عن منشورات الجمل والمرشحة لجائزة البوكر العربية 2013، نرى يوسف بطل الرواية المسيحي العراقي الذي عاش عمره في خدمة نخيل العراق وهو يجد نفسه مواجها بسؤال مرير «كيف أصبح نخيل العراق كلما هززت جذوع أشجاره لا يُساقط على كل مريمٍ عراقيةٍ إلا موتاً سخيّاً؟»، لكن التعقيدات الكابوسية التي يشهدها الواقع العراقي في عام 2010 الذي تدور الرواية فيه لا تقدم له إلا المزيد من الأسئلة، لذلك يجد يوسف نفسه متهما بالعيش في الماضي للهروب من مرارة الواقع، الإتهام توجهه له قريبته الشابة مها التي تعرضت للإجهاض بسبب حادثة تفجير سيارة مفخخة تستهدف حيا سكنيا تقطنه أغلبية مسيحية، مما اضطرها وزوجها إلى المجيئ للإقامة مع يوسف في بيت العائلة الذي أصبح خاويا إلا منه، وهنا يلجأ سنان أنطون إلى الإجابة على أسئلة بطله من خلال حيلة فنية بارعة، حين يجعل يوسف يُقَلِّب في صوره العائلية القديمة، فيحكي لنا من خلالها التحولات الإجتماعية التي شهدها العراق، وندرك حجم الجريمة المروعة التي أحدثها الإستبداد بالنسيج الإجتماعي العراقي، حيث كان يصور للناس أنه يحميهم بقبضته البوليسية من الطائفية والمذهبية، لكنه كان في واقع الأمر يدمر حصانة المجتمع وقدرته على المقاومة، لتظهر عليه علامات التفكك والتناحر بصورة مفزعة السرعة فور إنهيار قبضة الدولة البوليسية.
ستجعلك هذه الرواية تتأمل طويلا في واقع الشعوب التي تفشل في مواجهة تحديات الحاضر، فتفضل إراحة دماغها من عناء صنع المستقبل، وتختار الهروب إلى الماضي وأوهام الزمن الجميل الذي كان، كذلك فعلت مها بطلة الرواية وهي تحاول البحث عن مخرج من العراق، سواءا بالهجرة إلى بلاد أوروبية تعيش فيها إنسانيتها، أو حتى بالهجرة النفسية إلى أزمان ماضية كان العراق فيها أجمل، لكنها تواجه نفسها في نهاية المطاف بالحقيقة المرة: «على الفيسبوك عثرتُ أيضا على مجموعة العراق الجميل التي يتبادل أعضاؤها صور العراق وأغانيه في مايسمونه زمان الخير. كانت الصور جميلة ونادرة، تذكرني تعليقات الأعضاء تحت كل صورة جديدة توضع على جدار المجموعة بكلام يوسف عن الماضي ووقوفه على أطلاله، ذلك الماضي الذي كان كل شيئ فيه جميلا لا تشوبه شائبة، لكن الغريب أن الماضي عند هؤلاء لم يكن ينتهي أو يبدأ عند النقطة نفسها، فمنهم من يعتبر أن قدوم البعثيين في 1963 والوحشية التي قُتل بها عبد الكريم قاسم كانت نهاية الزمن السعيد، ومنهم من يعتبر صعود صدام في 1979 بداية النهاية، وهناك من يَمُدُّ بِساطَ الزمن السعيد إلى 1991 لأن الحصار هو بداية نهاية العراق، وهناك آخرون ينتهي عندهم الزمن في 2003، والغالبية منهم يَحِنُّون إلى زمن الملكية وينشرون صور العائلة المالكة معتبرين الإنقلاب العسكري والوحشية التي قتلت بها العائلة المالكة بداية الشر والسقوط في الهاوية، وأتساءل في سري كلما قرأت تحسراتهم على زمن الملكية: ألم يُذبح الآشوريون في ذاك العهد الملكي السعيد؟، ألم يتم تهجير اليهود العراقيين وطردهم من بيوتهم وبلدهم الذي عاشوا فيه بين ليلة وضحاها؟، ألم يكن الفقر مستشريا؟، والعهود التي تلته ألم تكن مليئة بالمذابح والمقابر الجماعية للأكراد والشيعة؟. تختلط البدايات والنهايات. كل يبكي على عراقه السعيد، لكنني كنت أشعر وأنا أنظر إلى كل تلك الصور والتعليقات التي تصاحبها بأنني لا أمتلك زمنا سعيدا أحن إليه. زمني السعيد لم يكن قد وُلِد بعد. ربما أكون سعيدة هناك، بعيدا عن العراق، بعيدا عن الموت والمفخخات وكل هذا الحقد الذي صار يسري في الشرايين. سنترك البلد لهم ليحرقوه ويُمثِّلوا بجُثته وسيذرفون دموعهم عليه بعد فوات الأوان الذي فات».
في إحدى جلسات يوسف الحميمة مع صديق عمره الشيعي سعدون الذي يشاركه في عشق شاعر العراق الأعظم محمود مهدي الجواهري يتجدد بينهما السؤال الموجع «والله ما أدري يعني كانت كل ها الطائفية موجودة وإحنا ما حاسين بيها؟»، فيُشَرِّقان في الأحزان ويُغَرِّبان، قبل أن يحكي يوسف لسعدون نكتة سمعها من زوج قريبته عن «ثلاثة عراقيين سني وشيعي ومسيحي وقع بأيديهم مصباح علاء الدين، دعكوه فطلع لهم الجني ليسأل الشيعي «إيش تريد؟»، فطلب منه الشيعي أن يمحو السنة «ما تبقّي ولا واحد»، فقال له الجني «صار تتدلّل»، ثم طلب من السني أمنيته التي كانت «أقتل الشيعة كلهم لا تبقي ولا واحد منهم يتنفّس»، رد الجني «صار تتدلّل» ليسأل بعدها المسيحي عن أمنيته، فيفكر المسيحي قليلا ثم يقول له «طيب نفّذ طلبات الجماعة الأول وبعدين تعال عليّ»، يتبادل الإثنان الضحك المرير، ثم يروي سعدون لصديقه يوسف أبياتا ساخرة قالها قديما الجواهري عن موضوع الطائفية «أي طَرطَرا تطَرطَري.. تقدّمي تأخّري.. تشيّعني تسنّني، تهوّدي تنصّري، تكرّدي تعرّبي»، فيرد يوسف مندهشا «هاي قالها من زمان؟ هذا معناه الطائفية صدق موجودة من زمان»، فيرد سعدون «لا يوباه دايما كان أكو سُنّة وشيعة ومسيح وإسلام، بس ما كان قتل وسحل وميليشيات ومفخخات»، فلم يجد يوسف ما يرد به سوى أن يقول «الله كريم» قبل أن يضيف «ظل إيقاع الأبيات يرن في أذني وأنا أمشي بعد أن ودعته: أي طرطرا تطرطري».
رحم الله الجواهري، وحفظ مصر والعراق، وكفانا وإياكم شر الطرطرة الطائفية التي تبدأ بالكلمات وتنتهي دائما بطرطشة الدماء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق